يعرفوه .. وبدأ الإمام مالك يتكلم وبدأ صوته يمس أعماق قلوب سامعيه ومحبيه حتى ظن أن الصوت قادم من بعبيد فحمد الله تعالى وصلى على نبيه ثم دعا لسامعيه وعارفيه بالخير والمغفرة لأنهم يحسنون به الظن وقال : قلت لكم بالأمس إني محدثكم في الغد بإذن الله عن هذا العبد الفقير إلى الله تعالى الذي تستمعون إليه عن مالك فإني أعلم من نفسي ما لا تعلمون وأنتم تحسنون بي الظن جزاكم الله خيراً . فقد كنت في شبابي شرطياً ظالماً وقد كلفت بالمحافظة على السوق فلم ينج من ظلمي أحد ولا من غلظتي فرد فكم من الناس اشتبكت معهم وآذيتهم يغفر الله لي ما تذكرتهم إلا وتقطعت نياط قلبي أسى على نفسي ولولا إيماني برحمة الله وفي رحمة الله لكنت اليوم غيري بكثير . ولم أترك يا إخواني من الموبقات شيئاً لم أفعله كنت أشرب الخمر وأضرب الناس وأتدخل فيما لا يعنيني من شئونهم حتى البيع والشراء وأناصر من يروقني حتى ولو كان ظالماً . وذات يوم كنت أسير في السوق فوجدت رجلين يختلفان على أمر بينهما واحد يشتري بضاعة والآخر يبيع له ويصر على أن يأخذ في بضاعته ثمناً معيناً والرجل الآخر يحاول أن يقلل منه . فنهرت المشتري وكدت أضربه بعصاي لولا أن شيئاً معيناً لا أعرفه منعني ونظرت إليه متأملاً فوجدته رجل أشيب الشعر على وجهه سمات الطيبين ممن الناس وأشار إلي بيده أن أتوقف قبل أن أحكم وعرض علي النزاع بينه وبين التاجر ، ولأول مرة في حياتي أنصت إلى شكاه وختم حديثه بأنه سمع حديثاً عن سيدنا رسول الله يقول فيه :" إذا ذهب أحدكم إلى السوق فاشترى أشياء تدخل المسرة على بناته نظر الله إليه " وأنا قادم من سفر وأردت قبل أن أذهب إلى بيتي شراء شيء يدخل المسرة على بناتي الثلاثة حتى ينظر الله إلي . ويقول مالك : وتأثرت من حديث الرجل واشتريت له البضاعة التي أرادها وأوصلته بها وتركته بعد أن سألته بالله أن يجعل بناته يدعون لي . ومرت الأيام ولا زال حديث الرجل معي يرن في أذني حتى رأيت جارية جميلة جداً تباع في السوق فوقعت في قلبي أجمل وقع وأحببتها فاشتريتها وتزوجتها وعشت معها أياماً سعيدة جداً أنستني فساد أمري وبدأت في الاستقامة خاصة عندما رزقنا الله بمولودة جميلة . ولكن لم تمض على وجود ابنتي أياماً حتى ماتت زوجتي وتركت ابنتنا يتيمة وعشت بعد ذلك سنتين لا أتزوج ولا هم لي غير العناية بابنتي التي صارت لي كل شيء في دنياي . وذات يوم عدت من عملي لأجد ابنتي تتألم وتتوجع وبحثت لها عن الدواء من خلال الأطباء ولكن أمر الله كان أبلغ وأسرع وضاعت ابنتي من على صدري وأخذت أضمها إلى قلبي ظناً مني أن الحياة ستدب فيها مرة أخرى أبللها بدموعي وأنادي عليها بحزن وبجزع قلبي ثم أسلمت أمري إلى الله وواريت وحيدتي التراب وهربت من نفسي ومن حياتي ومن واقعي إلى الألحان وأصبحت أعب الخمر وأعيش سكيراً كي لا أفيق إلى عالمي الحزين فأعرف ما فيه واشعر بفداحة مصيبتي ووحدتي . وعادت إلي غلظتي مع الناس والقسوة عليهم كأني أنتقم منهم وكأنهم هم الذين سلبوا مني امرأتي وابنتي وسعادتي حتى إني ذات يوم كنت أطوف بالسوق فرأيت امرأة تحمل قليلاً من الطعام فاغتصبته منها بالقوة ولم أهتم ببكائها أو صراخها ولا بعويل أطفالها الصغار . وذهبت ليلتها مبكراً إلى منزلي وكنا في النصف من شهر شعبان . ونمت نوماً عميقاً وبينما أنا على هذه الحالة إذ رأيت في عالم الرؤيا أن القيامة قد قامت ونفخ في الصور وحشرت الخلائق جميعاً وأنا معهم ثم سمعت صوتاً رهيباً مهولاً فالتفت فإذا بتنين (ثعبان) عظيم أسود أزرق فاتح فمه يتطاير الشرر من عينيه وهجم علي هذا التنين بشراسة فمررت بين يديه هارباً فزعاً حتى التقيت بشيخ ضعيف عاجز فهتفت به أنقذني وأجرني من هذا التنين أجارك الله فبكى إلي وشكى الضعف الذي هو فيه ثم قال أسرع لعل الله يقيض لك ما ينجيك منه فوليت هارباً مسرعاً على وجهي إلى أن صعدت على شرف وحافة ونهاية القيامة فأشرفت على طبقات النار فكدت أهوي فيها من فزعي والتنين من ورائي يلاحقني فصاح صائح ارجع فلست من أهلها . فرجعت من فزعي والتنين في طلبي فأتيت الشيخ أطلب منه الرحمة مرة ثانية فاشتكى إلي ضعفه تجاه الوحش الرهيب ثم قال
سر إلى هذا الجبل فإن فيه ودائع المسلمين فإن كان لك وديعة فتنصرك . فنظرت إلى جبل مستنير من فضة وستور معلقة على كل مكان مصراعات من ذهب أحمر يتوهج وعلى كل مصراع ستر من حرير يخطف جماله البصر فهرولت إليه والتنين من ورائي حتى إذا قربت منه صاح بعض الملائكة ارفعوا الستور وافتحوا المصاريع ثم رأيت أطفالاً كالأقمار واقترب التنين مني فاحترت في أمري فصاح بعض الأطفال ويحكم أشرفوا جميعاً فقد قرب منه عدوه فقدموا وفداً بعد وفد وإذا أنا بابنتي التي ماتت فنظرت إلي وبكت وقالت : أبي والله ، ثم وثبت في كفة من نور كرمية السهم حتى صارت عندي ومدت يدها الشمال إلى يدي اليمين وتعلقت بها ومدت يدها اليمنى إلى التنين فولى هارباً وأجلستني وقد بلغ الإعياء والتعب مني منتاه واحتضنتها إلى قلبي وقبلتها والدموع في عيني كأني أخشى أن أفقدها مرة أخرى ورفعت يدها إلى لحيتي وأخذت تداعبها ونظرت إلي بعينيها الجميلتين في حنان وحب خالص وقالت لي يا أبت : ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق فبكيت لما سمعت هذه الآية بكاء ما بعده بكاء أول مرة أسمعها وقلت لها : وأنتم تعرفون القرآن قالت : نحن أعرف به منكم ، قلت : فأخبريني عن التنين الذي أراد أن يهلكني قالت : ذلك عملك الشيء الشرير قويته فانقلب عليك يريدك في نار الجحيم قلت : والشيخ ؟ العجوز قالت : ذلك عملك الصالح أضعفته فلم يتمكن من نجدتك قلت : يا بنتي ماذا تفعلون في هذا الجبل قالت : أطفال المسلمين أسكنوا فيه إلى قيام الساعة ننتظركم تقدمون علينا فنشفع لكم . ففزعت فزعة شديدة قمت على إثرها من نومي والعرق يبللني كأنه مطر غزير أغرقني وأمسكت بعصاي فكسرت آلات الطرب وزجاجات الخمر وهتفت في قلبي إلى الله تائباً ولزمت الفراش بعدها أياماً لا أقوى على الحركة وظللت في هذه الفترة أستغفر الله وأتوب إليه وأسأله الرحمة وعرفت من يومها أن أخلص النية في سلوك طريق الله وكنت أعبد الله في الأيام الأولى لتوبتي بخوف شديد إذ1 أتمثل في معظم أوقاتي التنين مجسماً أمامي يريد أن يفترسني … وفي هذا الجو المليء بالخوف والرعب حبست نفسي عن الناس ومرت بنا أزمة شديدة إذ منع سقوط المطر فبدأنا ندعو الله ومع ذلك لم تهطل الأمطار فجف الزرع وأخذنا الظمأ حتى كان ذات يوم بقيت في المصلى أدعو الله بعد أن انفض الناس ولم يبق سواي إذا برجل أسود دقيق الساقين عظيم البطن يدخل فصلى ركعتين ثم رفع رأسه إلى السماء وقال : سيدي إلى كم يرد عبادك فيما لا ينقصك أنفذ ما عندك أقسمت عليك بحبك لي إلا أسقنا الساعة (الآن) فما كان ينتهي من دعائه حتى أمطرت السماء كأفواه القرب وهم الرجل بالانصراف فتعرضت له وقلت : أما تستحي أن تقول بحبك لي وما يدريك أنه يحبك قال لي : يا من اشتغل عنه بنفسه أين أنا كنت حينما اختصني بتوحيده دون غيري أتراه بدأني بذلك إلا لمحبته لي ، ألا تعلم أن الله تعالى واسع المغفرة عظيم المحبة لعباده ، ألم تسمع قوله تعالى : هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيماً وتركني وأنا في حالة من الذهول ومن يومها وأنا أقبل على الله دون أن أحس بالتنين… وصمت مالك بن دينار فترة ثم قال في قوة وخشوع : أيها الناس إن الله رحيم فأبشروا بالرحمة وبشروا الناس إن الله يحبكم حباً لو تعلمونه آه لو تعلمونه ما عصيتموه . أتحبون الله أيها الناس … إذن فاعلموا أن علامة محبة الله مداومة ذكره لأن من أحب شيئاً أكثر من ذكره ومن لم يأنس بمحادثة الله عن محادثة المخلوق فقد قل علمه وضيع عمره . توبوا إلى الله عباد الله ، وانتفض مالك قائماً فهب معه الناس قياماً يرددون التوبة الصادقة مع الله وإلى الله وحتى سمى هذا اليوم وقتذاك " بيوم التوابين ".
ـــــــــــــــــــــــــــــــ