ذكاء الليث بن سعد : عن لؤلؤة خادم هارون الرشيد قال : جرى بين الرشيد وبنت عمه زبيدة خلاف فقال هارون : أنت طالق إن لم أكن من أهل الجنة ثم ندم . فجمع الفقهاء فاختلفوا في قسمه . فكتب إلى البلدان فاستحضر علماءها إليه . فلما اجتمعوا جلس لهم فسألهم عن قسمه هذا ( أنت طالق إن لم أدخل الجنة ) فاختلفوا وبقي شيخ لم يتكلم وكان في آخر المجلس وهو الإمام الليث بن سعد قال : فسأله هارون الرشيد . فقال له الليث : إذا أخلى أمير المؤمنين مجلسه كلمته فصرفهم . فقال : يدنيني أمير المؤمنين فأدناه . قال : أتكلم مع الأمان ؟ قال : نعم . فأمر الليث بإحضار مصحف فأحضر فقال : تصفحه يا أمير المؤمنين حتى تصل إلى سورة الرحمن فاقرأها ففعل فلما انتهى إلى قوله تعالى : ولمن خاف مقام ربه جنتان قال : أمسك يا أمير المؤمنين قل : والله فاشتد ذلك على هارون فقال : يا أمير المؤمنين الشرط أملك . فقال : والله حتى فرغ من اليمين . فقال الليث : قل : إني أخاف مقام ربي . فقال ذلك . فقال : يا أمير المؤمنين فهي جنتان وليست بجنة واحدة . قال : فسمعنا التصفيق والفرح من وراء الستر فقال له الرشيد : أحسنت وأمر له بالجوائز وصرفه مكرماً . وهذا تصرف عال من جمال العلم ورعى فيه الحق والأدب معاً . ترى أن الإمام الليث عرف وجه الفتوى وهو أن الطلاق لا يقع إذا كان الرشيد ممن يخاف مقام ربه . ورأى في نفسه أنه لا يبيح لها أن يطلق الفتوى على علاتها حتى يتوثق من الشرط وهو خوف الله تعالى ويكون هذا بتحليف الرشيد حتى تطمئن نفس الإمام الليث إلى أن فتواه صادفت حقاً فصرف من في المجلس حتى لا يكون تحليفه بمرأى منهم ولا تأخذ الرشيد نفسه كما قد همت حين أراد تحليفه لو لم يذكره بشرطه عليه أن له الأمان منه حتى سكن ثم لم تكن فتوى الليث بن سعد خلخلة نفس بل من القرآن نفسه ولذلك أقرأه المصحف حتى آية : ولمن خاف مقام ربه جنتان فاطمأن بذلك الرشيد وعرف أنه يمسك زوجته على حل صحيح بنص قاطع من كلام الله وهذه موهبة الحق في غالب أحوالها لا تنفك عن حسن الأدب عند من عقل وعرف .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ